قصيدة: كلمات
تعلو في أذني حين يرقصني
كلمات ليست كالكلمات
يأخذني من تحت ذراعي
يزرعني بين الغيمات
والمطر الأسود في عيني
يتساقط كزخات، زخات
يحملني معه، يحملني
إلى مساءٍ وردي الشرفات
وأنا كطفلة في يده
كالرّيشة تحملها النسيمات
يقدم لي سبعة أقمار
بيديه وحزمة من الأغنيات
يهدي إلي شمسًا، يهدي إلي
صيفًا، وقطيع السنونوات
يخبرني أنني تحفته
وأعادل آلاف النجمات
وأنني كنزٌ، وأنني
أجمل ما شاهد من لوحات
يروي أشياء تدور بي
تنسيني المرقص والخطوات
كلمات تقلب تاريخي
تجعلني امرأة في لحظات
يبني لي قصرًا من وهم
لا أسكن فيه سوى لحظات
وأعود، أعود إلى طاولتي
لا شيء لدي، إلا كلمات
قصيدة: رسالة حب صغيرة
عزيزتي، لدي الكثير لأقوله
من أين أبدأ؟ يا غاليتي
يا من تُجمل أحرفي
بما فيها من زهور الحرير
هذه أغاني وأنا هنا
يتجمعنا هذا الكتاب الصغير
غدًا إن قلبت أوراقه
واشتاق مصباح وغنى السرير
وتوجّهت بحروف مفعمة بالشوق
وآذنت فواصل بالتحليق
فلا تقولي: لماذا هذا الفتى؟
تحدث عن المنحنى والغدير
واللوز، والتوليب حتى أنا
تسير بي الدنيا إذا مشيت
وإذا قالَ ما قال فلم يفتني النجم
إلا بعبيري وعطري
غدًا يراني الناس في شعري
كأسٍ نبيذي، وشعرٍ قصير
افعلي! حكايا الناس لن تصبح
كبيرة إلا بحبي الكبير
ماذا تصير الأرض لو لم نكن؟
لو لم تكن عيناك، ماذا تصير؟
قصيدة: خمس رسائل لأمي
صباح الخير، يا رائعة
صباح الخير، يا قديستي الحلوة
قد مضى عامان، يا أمي
على الولد الذي أبحر
رحلته الخرافية
وأخفى في حقائبه
صباح بلاده الأخضر
وأنجمها، وأنهارها، وكل شقيقها الأحمر
وأخفى في ملابسه
طرابينًا من النعناع والزيتون
وليكةً دمشقية
أنا وحدي، ودخان سجائري يضجر
ومقعدي يضجر
وأحزاني عصافير
تبحث بعد عن بيدر
عرفت نساء أوروبا
عرفت عواطف الإسمنت والخشب
عرفت حضارة التعب
طفت الهند، طفت السند، طفت العالم الأصفر
ولم أعثر على امرأة تمشط شعري الأشقر
وتحمِل في حقيبتها
إليَّ عرائس السكر
تكسوني إذا أعرى
وتنتشلي إذا أعثر
أيا أمي، أيا أمي
أنا الولد الذي أبحر
ولا زالت بخاطره
تعيش عروس السكر
كيف، فكيف، يا أمي
غدوت أبا ولم أكبر؟
صباح الخير من مدريد
ما أخبارها الفلة؟
أوصيك يا أمي
تلك الطفلة الطفلة
فقد كانت أحب حبيبة لأبي
يدللها كطفلته
ويدعوها إلى فنجان قهوته
ويسقيها ويطعمها
ويغمرها برحمته
ومات أبي، ولا زالت تعيش
بحلم عودته
وتبحث عنه في أرجاء غرفته
وتسأل عن عباءته
وتسأل عن جريدته
وتسأل – حين يأتي الصيف –
عن فيروز عيني
لتنثر فوق كفيه
دنانير من الذهب
سلامات، سلامات
إلى بيت سقانا الحب والرحمة
إلى أزهارك البيضاء، فرحة ساحة النجمة
إلى تختي، إلى كتبي
إلى أطفال حارتنا
وحيطان ملأناها
بفوضى من كتابتنا
إلى قطط كسولات
تنام على مشارق
وليلة معرّشة
على شباك جارتنا
قد مضى عامان، يا أمي
وجه دمشق عصفور
يخربش في جوانحنا
يعض على ستائرنا
وينقر برفق من أصابعنا
قد مضى عامان، يا أمي
وليل دمشق،
فل دمشق
دور دمشق
تسكن في خواطرنا
مآذنها تضيء على مراكبنا
وكأن مآذن الأموي زرعت بداخلك
وكأن مشاتل التفاح
تعبق في ضمائرنا
وكأن الضوء والأحجار
جاءت كلها معنا
أتى أيلول، يا أماه
وجاء الحزن يحمل لي هداياه
ويترك عند نافذتي
مدامعه وشكواه
أتى أيلول، أين دمشق؟
أين أبي وعيناه؟
وأين حرير نظرته؟
وأين عبير قهوته؟
سقى الرحمن مثواه
وأين رحاب منزلنا الكبير
وأين نعماه؟
وأين مدارج الشمشر
تضحك في زواياه
وأين طفولتي فيه؟
أجرجر ذيل قطته
وأكل من عريشته
وأقطف من بنفشاه
دمشق، دمشق
يا شعراً على حدقات أعيننا كتبناه
ويا طفلاً جميلاً
من ضفائره صلبناه
جثونا عند ركبته
وذُبنا في محبته
إلى أن في محبتنا قتلناه
قصيدة: لا بد أن أستأذن الوطن
يا صديقتي
في هذه الأيام، يا صديقتي
تخرج من جيوبنا فراشة صيفية تُدعى الوطن
تخرج من شفاهنا عريشة شامية تُدعى الوطن
تخرج من قمصاننا
مآذن، بلابل، جداول، قرنفل، سفرجل
عصفورة مائية تُدعى الوطن
أريد أن أراك، يا سيدتي
لكنني أخاف أن أجرح إحساس الوطن
أريد أن أهتف إليك، يا سيدتي
لكنني أخاف أن تسمعني نوافذ الوطن
أريد أن أمارس الحب على طريقتي
لكنني أخجل من حماقتي أمام أحزان الوطن
قصيدة: القصيدة الدمشقية
هذه دمشق وهذه الكأس والراح
إني أحب وبعض الحب ذبّاح
أنا الدمشقي لو شرّحتم جسدي
لسال منه عناقيد وتفاح
ولو فتحتم شراييني بمديتكم
سمعتم في دمي أصوات من راح
وزراعة القلب تشفي بعض من عشقوا
وما لقلبى – إذا أحببت – جراح
ألا تزال بخير دار فاطمة
فالنهد مستنفر والكحل صبّاح
إن النبيذ هنا نار معطرة
فهل عيون نساء الشام أقداح؟
مآذن الشام تبكي إذ تعانقني
وللمآذن كالأشجار أرواح
للياسمين حقول في منازلنا
وقطة البيت تغفو حيث ترتاح
طحونة البن جزء من طفولتنا
فكيف أنسى؟ وعطر الهيل فواح
هذا مكان أبو المعتز منتظر
ووجه فائزة حلو ولماح
هنا جذوري هنا قلبي هنا لغتي
فكيف أوضح؟ هل في العشق إيضاح؟
كم من دمشقية باعت أساورها
حتى أغازلها والشعر مفتاح
أتيتُ يا شجر الصفصاف معتذرًا
فهل تسامح هيفاء وواضح؟
خمسون عامًا وأجزائي مبعثرة
فوق المحيط وما في الأفق مصباح
تقاذفتني بحار لا ضفاف لها
وطاردتني شياطين وأشباح
أقاتل القبح في شعري وفي أدبي
حتى يفتّح نوّار وقدّاح
ما للعروبة تبدو مثل أرملة؟
أليس في كتب التاريخ أفراح؟
والشعر ماذا سيبقى من أصالته؟
إذا تولّاه نصاب ومداح؟
وكيف نكتب والأقفال في فمنا؟
وكل ثانية تأتيك سفاح؟
حملت شعري على ظهري فأتعبني
ماذا من الشعر يبقى حين يرتاح؟
قصيدة: على دفتر
سأجمع كل تاريخي
على دفتر
سأرضع كل فاصلة
حليب الكلمة الأشقر
سأكتب، لا يهم لمن
سأكتب هذه الأسطر
فحسب أن أبوح هنا
وجه البوح لا أكثر
حروف لا مبالية
أبعثرها على دفتر
بلا أمل بأن تبقى
بلا أمل بأن تُنشر
لعل الريح تحملها
فتزرع في تنقّلها
هنا حرجاً من الزعتر
هنا كرمًا
هنا بيدر
هنا شمس وصيف رائع أخضر
حروف سأفرطها
كقلب الخوخة الأحمر
لكل سجينة تحيا معي في سجني الأكبر
حروف ستغرِزها
بلحم حياتنا خنجر
لتكسر في تمردها جليداً
كان لا يُكسر
لتخلع قفل تابوتٍ أعد لنا لكي نُقبَر
كتابات أقدمها
لأية مهجة تشعر
سيسعدني إذا بقيت
غدًا مجهولة المصدر.
قصيدة: أحاول إنقاذ آخر أنثى قبيل وصول التتار
أعد فناجين قهوتنا الفارغات
وأمضغ آخر كسر شعري لدي
وأضرب جمجمتك بالجدار
أعدك جزءًا فجزءا
قبل انسحابك مني، وقبل رحيل القطار
أعد أناملك النحيلة
أعد الخواتم فيها
أعد شوارع نهدك بيتًا فبيتًا
أعد الأرانب تحت غطاء السرير
أعد ضلوعك، قبل العناق وبعد العناق
أعد مسامات جلدك قبل دخولي، وبعد خروجي
وقبل انتحاري وبعد انتحاري
أعد أصابع رجليك
كي أتحقق أن الحرير بخير
وأن الحليب بخير
وأن بيانوا (موزارت) بخير
وأن الحمام الدمشقي ما زال يلعب في صحن داري
أعد تفاصيل جسمك
شبرا فشبرا وبرا وبحرا
وساقا وخصرًا ووجهًا وظهرًا
أعد العصافير
تسرق من بين نهديك قمحًا، وزهراً
أعد القصيدة، بيتًا فبيتًا
قبل انفجار اللغات، وقبل انفجاري
أحاول أن أتعَلَق في حلمة الثدي
قبل سقوط السماء عليّ، وقبل سقوط الستار
أحاول إنقاذ آخر نهد جميل
وآخر أنثى قبيل وصول التتار
أقيم مساحة خصرك قبل سقوط القذيفة فوق زجاج حروفي
وقبل انشطاري
أقيِمُ مساحة عشقي فأفشل
كيف بوسع شراع صغير كقلبي
اجتياز أعالي البحار؟
أقيم الذي لا يُقاس
يا امرأة من فضاء النبوءات
هل تقبلين اعتذراي؟
أعد قناني عطورك فوق الرفوف
فتجتاحني نوبة من دوار
وأحصي فساتينك الرائعات
فأدخل في غابة من نحاس ونار
سنابل شعرك تشبه أبعاد حريتي
وألوان عينيك
فيها انفتاح البراري
أيا امرأة لا أزال أعد يديها
وأخطئ بين شروق اليدين وبين شروق النهار
يا ليتني ألتقيك لخمس دقائق
بين انهياري وبين انهياري
هي الحرب تمضغ لحمي ولحمك
ماذا أقول؟ وأي كلام يليق بهذا الدمار؟
أخاف عليك، ولست أخاف عليّ
فأنت جنوني الأخير
وأنت احتراقي الأخير
وأنت ضريحي وأنت مزاري
أعدك
بدءاً من القُرط، حتى السوار
ومن منبع النهر حتى خليج المحار
أعد فناجين شَهوتنا
ثم أبدأ في عدها من جديد
لعلي نسيت الحساب قليلاً
لعلي نسيت الحساب كثيراً
ولكنني ما نسيت السلام
كعلى شجر الخوخ في شفتيك
ورائحة الورد، والجلنار
أحبك
يا امرأة لا تزال معي في زمان الحصار
أحبك
يا امرأة لا تزال تقّدم لي فمها وردة
في زمان الغبار
أحبك حتى التقمص، حتى التوحد،
حتى فنائي فيك، وحتى اندثاري
أحبك
لا بد لي أن أقول قليلاً من الشعر
قبل قرار انتحاري
أحبك
لا بد لي أن أحرر آخر أنثى
قبل وصول التتار.