اختاري
تحدث نزار قباني إلى محبوبته قائلاً:
لقد جعلتكِ تختارين
بين الموت على صدري..
أو فوق دفاتر أشعاري..
اختاري الحب أو اللا حب
فإن الجبن هو ألا تختاري..
لا توجد منطقة وسطى
ما بين الجنة والنار..
ارمي جميع أوراقكِ..
وسأكون راضياً عن أي قرار..
قولي. انفعلي. انفجري
لا تقفي كالمسمار..
لا يمكنني أن أبقى كالقشة تحت الأمطار
اختاري قدراً بين اثنين
وما أقسى أقداري..
أنتِ مرهقة وخائفة
ومشواري طويل جداً..
غوصي في البحر أو ابتعدي
لن تجدِ بحراً بدون دوار
الحب هو مواجهة كبرى
إبحار ضد التيار
صلبٌ وعذاب ودموع
ورحيل بين الأقمار..
يؤلمني جبنكِ يا امرأة
تتسلى خلف الستار..
لأني لا أؤمن بحبٍ
لا يحمل نزق الثوار..
لا يكسر كل الأسوار
ولا يضرب مثل الإعصار..
آهٍ لو حبكِ يبتلعني
قد يقتلعني مثل الإعصار..
لقد جعلتكِ تختارين..
بين الموت على صدري
أو فوق دفاتر أشعاري
لا توجد منطقة وسطى
ما بين الجنة والنار..
الوضوء بماء العشق والياسمين
وأشار من دمشق:
صوتي ينطلق هذه المرة، من دمشق.
ينطلق من منزل والدي ووالدتي.
في الشام، تتغير جغرافية جسدي.
تصبح كريات دمي خضراء.
وأبجديتي تكتسي بلونها الأخضر.
في الشام، يظهر لفمي فم جديد
ويظهر لصوتي صوت جديد
وتصبح أصابعي
قبيلة من الأصابع.
أعود إلى دمشق
ممتطياً صهوة سحابها
أمتطي أجمل حصانين في العالم
حصان العشق.
وحصان الشعر..
أعود بعد ستين عاماً
لأبحث عن حبل مشيمتي،
وعن الحلاق الدمشقي الذي ختنني،
وعن القابلة التي وضعتني في طست تحت السرير
وأخذت من أبي ليرة ذهبية
وغادرت بيتنا ..
في ذلك اليوم من شهر آذار عام 1923
وكانت يداها ملطختين بدم القصيدة…
من جهة (باب البريد).
أحمل معي،
عشرة أطنان من مكاتيب الهوى
التي أرسلتها في القرن الأول للهجرة
لكنها لم تصل إلى عنوان الحبيب
أو ربما مزقتها مقص الرقابة..
لذا قررت أن أحمل بريدي على كتفي
لعل من أحببتها
وهي طالبة في المدرسة الثانوية
قبل خمسة عشر قرناً
لا تزال ترسب في امتحاناتها
تضامناً مع ليلى العامرية
ومريم المجدلية
ورابعة العدوية
وكل المعذبات في الحب .. في هذا العالم الثالث.
أو ربما نقلوا الرقابة التي كانت تغتال رسائلي
إلى مصلحة تسجيل السيارات
أو أدرجوها في مدرسة لمحو الأمية
أو تزوجت ممن كان يقرأ لها رسائلي
منتحلاً اسمي..
وتوقيعي..
وجرأة قصائدي..
أعود إلى الرحم الذي تشكلت فيه..
وإلى المرأة الأولى التي علمتني
جغرافية الحب..
وجغرافية النساء..
أعود..
بعدما تناثرت أجزائي في كل القارات
وتناثر سُعالي في كل الفنادق
فبعد شراشف والدتي المعطرة بصابون الغار
لم أجد سريراً أنام عليه..
وبعد عروس الزيت والزعتر
التي كانت تلفها لي،
لم تعد تُعجبني أي عروس في العالم..
وبعد مربى السفَرجل الذي كانت تصنعه بيديها
لم أعد متحمساً لإفطار الصباح
وبعد شراب التوت الذي كانت تعصره
لم يعد يسكرني أي نبيذ..
أدخل صحن الجامع الأموي
أُسلم على كل من فيه
بلاطة.. بلاطة
حمامة.. حمامة
أتجول في بساتين الخط الكوفي
وأقطف أزهاراً جميلة من كلام الله..
وأسمع بعيني صوت الفسيفساء..
وموسيقى مسابح العقيق
تأخذني حالة من التجلّي والانخداع،
فأصعد درجات أول مئذنة تصادفني
مُناديًا:
“حيّ على الياسمين”.
“حيّ على الياسمين”.
عائدٌ إليكم
وأنا مضرّجٌ بأمطار حنيني
عائدٌ، لأملأَ جيبي
عائدٌ إلى محارتي.
فلا نوافير فرساي
عوّضتني عن (مقهى النوفرة)
ولا سوق الهال في باريس
عوّضني عن (سوق الجمعة)
ولا قصر باكنغهام في لندن
عوّضني عن (قصر العظم)
ولا حمائم ساحة (سان ماركو) في فينيسيا
أكثر بركةً من حمائم الجامع الأموي
ولا قبر نابليون في الأنفاليد
أكثر جلالاً من قبر صلاح الدين الأيوبي..
قد يتهمني البعض..
بأنني عدت للسباحة في بحار الرومانسية
لكني لا أرفض هذه التهمة.
فكما للأسماك مياهها الإقليمية
فإن للقصائد أيضاً مياهها الإقليمية.
وأنا — كأي سمكة تكتب شعراً —
لا أريد أن أموت اختناقاً….
أجول في حارات دمشق الضيقة.
تستيقظ العيون العسلية، خلف الشبابيك
وتسلم عليّ..
تلبس النجوم أساورها الذهبية..
تحط حمائمها من أبراجها..
وتسلم عليّ..
تخرج لي القطط الشامية النظيفة
التي وُلِدت معنا..
وراهقت معنا..
وتزوجت معنا..
لتسلم عليّ…
تضع قليلاً من الماكياج على وجهها..
مثل كل النساء..
تصنع لي قهوةً طيبة.
وتعرفني على أولادها وأصهارها وأحفادها..
وتخبرني أن أكبر أولادها
سيتخرج هذا العام طبيباً من جامعة دمشق
وأن أصغر بناتها تزوجت من أمير عربي
وسافرت معه إلى الخليج..
تترقرق الدموع في عيني..
وأستأذن بالانصراف
وأنا مطمئن على شجرة العائلة
ومستقبل السلالات…
إلى مصطافة
وقال في الحب:
أأنتِ على المنحنى تقعدين؟
لها رئتي هذه القاعدة..
مشاوير تموز.. عادت وعدنا
لننهب دالية راقِدة..
لنسرق تيناً من الحقل فجّاً
لنقف عصفورة شاردة
لأغزل غيم بلادي شريطاً
يلف جدائلك الراعدة
لأغسل رجليكِ يا طفلتي
بماء ينابيعها الباردة
سماوية العين.. مصطافتي
على كتف القرية الساجدة
أحبك في لهو بيض الخراف
وفي مرح العنزة الصاعدة
وفي زمر السرو والسنديان
وفي كل صفصافة ماردة
وفي مقطعٍ من أغاني جبالي
تغنيه فلاحة عائدة
صديقة. إن العصافير عادت
لتنقر من جعبة الحاصدة
أحبك أنقى من الثلج قلباً
وأطهر من سبحة العابد
حلمت اندفاعة هذا الصبي
كما احتملت طفلها الوالدة
أحبكِ.. زوبعة من شباب
بعشرين لا تعرف العاقبة
جموح السنين على الأفق لاحَت
فلوحّي.. ولو مرة واحدة..